فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم} معناه: اجعلوا وقاية بينكم وبين النار، وقد تقدم غير مرة تعليل اللفظة، وقوله تعالى: {وأهليكم} معناه: بالوصية لهم والتقويم والحمد على طاعة الله تعالى، وفي حديث: «لا تزن فيزني أهلك»، وفي حديث آخر: «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه، صلاتكم، صيامكم، مسكينكم، يتيمكم»، وقرأ الجمهور: {وقودها} بفتح الواو، وقرأ مجاهد والحسن وطلحة وعيسى والفياض بن غزوان وأبو حيوة بضمها، وقيل هما بمعنى، وقيل الضم مصدر والفتح اسم، ويروى أن {الحجارة}: هي حجارة الكبريت، وقد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة. ويروى أنها جميع أنواع الحجارة، وفي بعض الحديث أن عيسى ابن مريم سمع أنينا في فلاة من الأرض فتبعه حتى بلغ إلى حجر يئن ويحزن، فقال له: ما بالك أيها الحجر؟ فقال: يا روح الله، إني سمعت الله يقول: {وقودها الناس والحجارة}، فخفت أن أكون من تلك الحجارة، فعجب منه عيسى وانصرف، ويشبه أن يكون هذا المعنى في التوراة أو في الإنجيل، فذلك الذي سمع الحجر إذا عبر عنه بالعربية كان هذا اللفظ، ووصف الملائكة بالغلظة معناه في القلوب والبطش الشديد والفظاظة، كما قال تعالى لنبيه: {ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] والشدة القوة، وقيل المراد شدتهم على الكفار، فهي بمعنى الغلظ، ووصفهم تعالى بالطواعية لربهم، وكرر المعنى تأكيدا بقوله تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون}، وفي قوله تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون} ما يقتضي أنهم يدخلون الكفار النار بجد واختيار، ويغلظون عليهم، فكأنه قال بعد تقرير هذا المعنى، فيقال للكفار: {لا تعتذروا اليوم}: أي إن المعذرة لا تنفعكم، وإنما تجزون بأعمالكم فلا تلوموا إلا أنفسكم، ثم أمر عباده بالتوبة، والتوبة فرض على كل مسلم، وتاب معناه: رجع فتوبة العبد: رجوعه من المعصية إلى الطاعة، وتوبة الله تعالى على العبد إظهار صلاحه ونعمته عليه في الهداية إلى الطاعة، وقبول توبة الكفار يقطع بها على الله إجماعا من الأمة، واختلف الناس في توبة العاصي، فجمهور أهل السنة على أنه لا يقطع بقبولها ولا ذلك على الله بواجب، والدليل على ذلك دعاء كل واحد من المذنبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعا بها لما كان معنى للدعاء في قبولها، وظواهر القرآن في ذلك هي كلها بمعنى المشيئة، وروي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: التوبة إذا توفرت شروطها قطع على الله بقبولها لأنه تعالى أخبر بذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المسك بظواهر القرآن، وعلى هذا القول أطبقت المعتزلة، والتوبة الندم على فارط المعصية والعزم على ترك مثلها في المستقبل، وهذا من المتمكن، وأما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم وحده يكفيه، والتوبة عبادة كالصلاة ونحوها، فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت ثم عاود الذنب، فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من العبادات، والنصوح بناء مبالغة من النصح إلى توبة نصحت صاحبها وأرشدته، وقرأ الجمهور: {نصوحا} بفتح النون، وقرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع والحسن والأعرج وعيسى: {نُصوحا} بضم النون، وهو مصدر، يقال: نصح، ينصح، نصاحة، ونصاحة قاله الزجاج، فوصف التوبة بالمصدر كالعدل والزور وغيره، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التوبة النصوح، هي أن يتوب ثم لا يعود، وقال أبو بكر الوراق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا، وقوله تعالى: {عسى ربكم} الآية، ترجية، وقد روي أن {عسى} من الله واجبة، والعامل في {يوم} قوله: {يدخلكم}، وروي في معنى قوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي}، أن محمدا صلى الله عليه وسلم تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه: إن شئت جعلت حسابهم إليك، فقال: «يا رب أنت أرحم بهم» فقال الله تعالى: «إذا لا أخزيك فيهم»، فهذا معنى قوله: {يوم لا يخزي الله النبي}، والخزي المكروه الذي يترك الإنسان حيران خجلا مهموما بأن يرى نقصه، أو سوء منزلته، وقوله تعالى: {والذين آمنوا معه} يحتمل أن يكون معطوفا على {النبي} فيخرج المؤمنون من الخزي، ويحتمل أن يكون ابتداء، و{نورهم يسعى} جملة هي خبره، ويبقى النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا مفضلا بأنه لا يخزى، وقد تقدم القول في نظير قوله: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم: 8]، وقرأ سهل بن سعد: {وبإيمانهم}، بكسر الهمزة، وقوله تعالى: {ربنا أتمم لنا نورنا}، قال الحسن بن أبي الحسن هو عندما يرون من انطفاء نور المنافقين حسبما تقدم تفسيره، وقيل يقول من أعطي من النور بقدر ما يرى قدميه فقط.
{يا أيُّها النّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّار والْمُنافِقِين واغْلُظْ عليْهِمْ ومأْواهُمْ جهنّمُ وبِئْس الْمصِيرُ (9)}
هذه الآية تأكيد لأمر الجهاد وفضله المتقدم، والمعنى دم على جهاد الكافرين بالسيف، وجاهد المنافقين بنجههم وإقامة الحدود عليهم وضربهم في كل جرائمهم، وعند قوة الظن بهم، ولم يعين الله تعالى لرسوله منافقا يقع القطع بنفاقه، لأن التشهد الذي كانوا يظهرون كان ملبسا لأمرهم مشبها لهم بالعصاة من الأمة. والغلظة عليهم هي فظاظة القلب والانتهار وقلة الرفق بهم، وقرأ الضحاك: {وأغلِظ} بسكر اللام وقطع الألف. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ توبوا إِلى الله توْبة نّصُوحا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ توبوا إِلى الله} أمر بالتوبة، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان.
وقد تقدّم بيانها والقول فيها في (النساء) وغيرها.
{توْبة نّصُوحا} اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا؛ فقيل: هي التي لا عوْدة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضّرع؛ وروي عن عمر وابن مسعود وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم.
ورفعه مُعاذ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: النّصُوح الصادقة الناصحة.
وقيل الخالصة؛ يقال: نصح أي أخلص له القول.
وقال الحسن: النّصُوح أن يُبْغِض الذنب الذي أحبّه ويستغفر منه إذا ذكره.
وقيل: هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها.
وقيل: هي التي لا يحتاج معها إلى توبة.
وقال الكلبيّ: التوبة النصوح النّدم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود.
وقال سعيد بن جُبير: هي التوبة المقبولة؛ ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات.
وقال سعيد بن المسيّب: توبة تنصحون بها أنفسكم.
وقال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العوْد بالجنان، ومهاجرة سيء الخِلان.
وقال سفيان الثّوْري: علامة التوبة بالنصوح أربعة: القِلّة والعِلة والذِّلّة والغُرْبة.
وقال الفُضيل ابن عياض: هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه.
ونحوه عن ابن السّماك: أن تنصِب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعدّ لمنتظرك.
وقال أبو بكر الورّاق: هو أن تضيق عليك الأرض بما رحُبت، وتضيق عليك نفسك؛ كالثلاثة الذين خُلِّفوا.
وقال أبو بكر الواسطي: هي توبة لا لفقد عِوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهِية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة؛ فتوبته على حفظ نفسه لا لله.
وقال أبو بكر الدّقاق المصري: التوبة النصوح هي ردّ المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات.
وقال رُويْم: هو أن تكون لله وجها بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه.
وقال ذو النُّون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قِلّة الكلام، وقِلّة الطعام، وقِلّة المنام.
وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة؛ لينجو من آفاتها بالسلامة.
وقال سرِيّ السّقطِيّ: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحب توبته أحبّ أن يكون الناس مثله.
وقال الجُنيْد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا؛ لأن من صحّت توبته صار مُحبا لله، ومن أحبّ الله نسِي ما دون الله.
وقال ذو الأُذنيْن: هو أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح، وقلبٌ عن المعاصي جمُوح.
وقال فتح الموْصِليّ: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ.
وقال سهل بن عبد الله التُّسْترِيّ: هي التوبة لأهل السنة والجماعة؛ لأن المبتدع لا توبة له؛ بدليل:
قوله صلى الله عليه وسلم: «حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب» وعن حُذيْفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه.
وأصل التوبة النصوح من الخلوص؛ يقال: هذا عسلٌ ناصح إذا خلص من الشّمْع.
وقيل: هي مأخوذة من النّصاحة وهي الخياطة.
وفي أخذها منها وجهان: أحدهما لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخيّاط الثوب بخياطته ويوثقه.
والثاني لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم؛ كما يجمع الخياط الثوب ويُلصق بعضه ببعض.
وقراءة العامة {نصُوحا} بفتح النون، على نعت التوبة، مثل امرأة صبور، أي توبة بالغة في النصح.
وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم؛ وتأويله على هذه القراءة: توبةُ نصح لأنفسكم.
وقيل: يجوز أن يكون {نُصُوحا}، جمع نُصح، وأن يكون مصدرا، يقال: نصح نصاحة ونُصُوحا.
وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر، نحو الذِّهاب والذُّهوب.
وقال المبرّد: أراد توبة ذات نُصح، يقال: نصحت نصحا ونصاحة ونُصوحا.
الثانية: في الأشياء التي يُتاب منها وكيف التّوبة منها.
قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لايخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين.
فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاءُ ما فات منها.
وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة.
وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يُمكِّن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به.
وإن كان قذفا يوجب الحدّ فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به.
فإن عُفِي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص.
وكذلك إن عُفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤدِّيه إن كان واجدا له، قال الله تعالى: {فمنْ عُفِي لهُ مِنْ أخِيهِ شيْءٌ فاتباع بالمعروف وأداءٌ إِليْهِ بِإِحْسانٍ} [البقرة: 178].
وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه.
وقد نصّ الله تعالى على سقوط الحدّ عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم.
وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم؛ حسب ما تقدم بيانه.
وكذلك الشُّرّاب والسُّراق والزُّناة إذا أصلحوا وتابوا وعُرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدّهم.
وإن رُفُعوا إليه فقالوا: تُبْنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غُلبوا.
هذا مذهب الشافعيّ.
فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا بردّه إلى صاحبه والخروج عنه عيْنا كان أو غيره إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤدّيه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.
وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه.
وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه عرفه بعينه أو لم يعرفه فذلك صحيح.
وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزّعه بغير حقّ، أو غمّه أو لطمه، أو صفعه بغير حقّ، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم جاءه مستعفِيا نادما على ما كان منه، عازما على ألاّ يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب.
وهكذا إن كان شانه بشتم لا حدّ فيه.
قوله تعالى: {عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّر عنكُمْ سيِّئاتِكُمْ} {عسى} من الله واجبة.
وهو معنى قوله عليه السلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» و{أن} في موضع رفع اسم {عسى}.
قوله تعالى: {ويُدْخِلكُمْ} معطوف على {يُكفِّر}.
وقرأ ابن أبي عبْلة {ويُدْخِلكُمْ} مجزوما، عطفا على محل عسى أن يكفّر.
كأنه قيل: تُوبُوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
{يوْم لا يُخْزِى الله النبي} العامل في {يوْم}: {يُدخلكم} أو فعل مضمر.
ومعنى {يُخْزي} هنا يعذّب، أي لا يعذّبه ولا يعذّب الذين آمنوا معه.
{نُورُهُمْ يسعى بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ} تقدم في سورة (الحديد).
{يقولون ربّنآ أتْمم لنا نُورنا واغفر لنآ إِنّك على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة (الحديد).
قوله تعالى: {يا أيها النبي جاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عليْهِمْ}
فيه مسألة واحدة وهو التشديد في دين الله.
فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله.
والمنافقين بالغلْظة وإقامة الحجة، وأن يعرّفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجُوزون به الصراط مع المؤمنين.
وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم؛ فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود.
وكانت الحدود تقام عليهم.
{ومأْواهُمْ جهنّمُ} يرجع إلى الصِّنفين.
{وبِئْس المصير} أي المرجع. اهـ.